((لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) يعني اليهود والنصارى والمجوس، والوصف ليس للتصنيف بل للبيان، فإن كل أهل الكتاب قد كفروا بنسبتهم إلى الله الولد والشريك وتوصيفهم له بما لا يليق بجلال شأنه ((وَ)) من ((الْمُشْرِكِينَ)) الذين أشركوا بالله وعبدوا الأصنام معه ((مُنفَكِّينَ)) أي منتهين عن كفرهم، من "انْفَكّ" بمعنى زال عنه وابتعد ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي الحجة الظاهرة، وهو القرآن الكريم والرسول العظيم، إذ لا مجال لهم في عرفان الحقائق بعدما عرفوا كتبهم وبدلوا دينهم.
ثم بين المراد بالبينة بقوله: ((رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ)) أي من طرفه سبحانه ((يَتْلُو)) ويقرأ عليهم ((صُحُفًا مُّطَهَّرَةً)) في صحائف القرآن الحكيم التي طهرت عن الكفر والشرك ونسبة ما لا يليق إلى الله وأنبيائه، فإن النبي وإن كان يتلوا عن ظهر القلب لكنه كان يقرأ عن اللوح المحفوظ، عكس كتاب العهدين.
((فِيهَا)) أي في تلك الصحف ((كُتُبٌ قَيِّمَةٌ)) "الكتاب" يستعمل بمعنى الموضوع، كما يقال: "كتاب الصلاة، وكتاب الحج،" يراد موضوعهما، ولذ ترى كتاب الصلاة مثلاً في ضمن كتاب "شرائع الإسلام" للمحقق، أو أن الكتاب بمعنى المكتوب وهو في الصحيفة، يعني أن تلك الصحف تشتمل على موضوعات ذات قيمة وثمن أو بمعنى ذات استقامة، فإن "القيمة" بمعنى المستمرة في جهة الصواب.
((وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ)) أي أُعْطُوا الكتاب السماوي ((إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ)) أي الحجة الواضحة، والمعنى أن أهل الكتاب إنما اختلفوا في أمر الرسول أو في أمر دينهم السابق بأن صار لكل فئة مذهب وطريقة بعد أن تمت الحجة وعرفوا الصواب، وإنما اختلفوا بغياً وحسداً.
((وَ)) الحال أن الله لم يأمرهم إلا بعبادته واتباع طريقته، فإنهم ((مَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ)) وحده في حال كونهم ((مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ))، أي يخلصون الطريقة لله سبحانه بلا زيادة ولا نقصان أو شرك وانحراف في حال كونهم ((حُنَفَاء)) جمع حنيف، أي مائلين عن الأديان الباطلة والطرائق الزائفة، من "حنف" بمعنى مال، ((وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ)) أي يداوموا على إقامة الصلاة، ((وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ))، أي يعطوها، والمراد بها إما مطلق الإعطاء أو الزكاة المفروضة، فقد فرضت الزكاة في الأديان السابقة، ((وَذَلِكَ)) الدين المشتمل على هذه الأمور المذكورة ((دِينُ الْقَيِّمَةِ)) أي دين الكتب القيمة - التي تقدم ذكرها - بمعنى أنه الدين المذكور في تلك الكتب.
((إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ)) استمروا على كفرهم فلم يؤمنوا بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ((وَ)) من ((الْمُشْرِكِينَ)) بأن استمروا في شركهم يكونون ((فِي نَارِ جَهَنَّمَ)) في الآخرة حال كونهم ((خَالِدِينَ فِيهَا))، أي في النار إلى الأبد، ((أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ))، أي شر الخلق، فإن البرية هي الخليقة، من "برأ" بمعنى خلق وأنشأ.
((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا)) بالله ورسوله واليوم الآخر ((وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ)) أي الأعمال الصالحة - الملازم لعدم الإتيان بالأعمال الفاسدة ((أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ))، أي الأفضل من جميع الخلق، وفي مقابلهم من آمن وعصى، فانه ليس بذلك الشر ولا بذلك الخير.
((جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ)) أي المحل الذي أعده للحساب والجزاء، فإنه سبحانه لا مكان له ((جَنَّاتُ عَدْنٍ))، أي بساتين إقامة، من "عدن" بالمكان إذا أقام فيه، ((تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ))، أي من تحت أشجارها وقصورها أنهار من عسل ولبن وماء، ((خَالِدِينَ فِيهَا)) أي في تلك الجنات ((أَبَدًا)) دائماً، لا يزلون عنها، ((رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ)) حيث عبدوه وأطاعوه، ((وَرَضُوا عَنْهُ)) حيث أكرمهم وتفضل عليهم بالخير والسعادة، ((ذَلِكَ)) الثواب والفضل ((لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ))، أي خافه فلم يعصه، ولم يرتكب ما يخالف أوامره.