((إِنَّا أَنزَلْنَاهُ)) أي القرآن - المعلوم من السياق - والإتيان بلفظ الجمع في "إنا" و"أنزلناه" باعتبار التعظيم، فقد كان من المتعارف أن يتكلم كل رئيس عن نفسه وعن أتباعه، ثم أستعير "الجمع" في كل تعظيم ((فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ))، وهي التاسعة عشرة أو الواحدة والعشرون أو الثالثة والعشرون من شهر رمضان المبارك، فقد نزل القرآن بجملته إلى البيت المعمور في السماء الرابعة - في إحدى هذه الليالي الثلاث، ثم نزل منجما على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ظرف ثلاث وعشرين سنة، أو المراد أن إنزاله على قلب الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) كان في هذه الليلة، وإنما إتيان جبرائيل به أقساطاً من السماء بمناسبات كان في ظرف ثلاث وعشرين سنة.
وسميت الليلة بـ"القدر" لتقدير أعمال العباد في هذه الليلة، وقد ورد في الأحاديث أن في هذه الليلة من كل سنة تنزل أفواج من الملائكة بالتقديرات لتك السنة إلى الإمام الحي من الأئمة الإثني عشر (عليهم السلام) بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، فيعلم الإمام بما قدر الله سبحانه للخلائق من الآجال والأرزاق والأعمال وسائر الأمور المرتبطة بهم، وهذا لا يعني أنهم كالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في نزول الوحي، فقد نزل جبرائيل على مريم وليست رسولاً، بل هو تشريف من الله سبحانه للإمام الذي هو خليفة الله في أرضه بعد الرسول، وفي دورنا تنزل الملائكة بالتقديرات في ليلة القدر على الإمام المهدي المنتظر (عجل الله فرجه).
((وَمَا أَدْرَاكَ)) يا رسول الله أو أيها السامع ((مَا)) هي ((لَيْلَةُ الْقَدْرِ))؟ وهذا لتعظيم شأنها.
((لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ))، يعني أن الأعمال الصالحة في ليلة القدر خير من العمل الصالح في ألف شهر - التي هي أكثر من ثمانين سنة - فإن الأزمان إنما تفضل بعضها على بعض بما يقع فيها من الأعمال، أو المعنى أن تلك الليلة التي نزل فيها القرآن خير من ألف شهر لما حدث فيه من أمر عظيم وهو نزول القرآن.
((تَنَزَّلُ)) أصله "تتنزل"، حذفت إحدى تاءيه على القاعدة - كما سبق - ((الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ)) وهو ملك عظيم أو جبرائيل (عليه السلام) ((فِيهَا)) أي في تلك الليلة ((بِإِذْنِ رَبِّهِم)) فإن الله يأذن لهم في النزول على الرسول والإمام لبيان مقدرات العباد في تلك السنة ((مِّن كُلِّ أَمْرٍ))، فقد جاء جبرائيل وسائر الملائكة إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك الليلة ومعهم كل أمر مربوط بالأرض من الهداية والإرشاد والتنظيم والتقنين والسعادة والخير، وكذلك يأتون في كل سنة إلى الإمام الحي بذلك كله.
((سَلَامٌ هِيَ)) أي تلك الليلة، فقد قدر فيها منهاج السلام العام للعالم: سلامة الروح عن الأوضار، وسلامة الجسم عن الأمراض، وسلامة المجتمع عن المفاسد، وسلامة العقل من الخرافة، أو المعنى أن الليلة هي سلام بمعنى كونها سالمة عن البلايا والآفات، فلا يقدّر فيها إلا السلام، ((حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ)) فإذا طلع الفجر انتهى تنزل الملائكة ويتم الأمر، كما حين طلع الفجر من ليلة نزول القرآن انتهى تنزل الملائكة وقدر الأمر، ومن المستحب الدعاء والضراعة في هذه الليلة تذكراً لابتداء الوحي، وطلباً لأن يقدر فيها الخير بالنسبة إلى السنة المقبلة.