أمشي في الشوارع حائراً أبحث عن شيء غير موجود ، وأمل لم يولد أصلاً ..
كان ذلك حتى رأيتها ...
كانت تجلس في حديقة منزل تمسك كتاب وتقرأ .. إلا إن عيناها في الحقيقة كانت في عالم أخر .. وتسبح في سديم بعيد ...
شلال من الرقة كانت .. نهر من الجمال يجري في عينيها الزرقاوين وحسن ليس له نهاية ..
ترتدي فستان أزرق بلون عيناها .. وحذاء أزرق صغير ذا ذوق أنيق ..
توقفت واستندت بيدي علي سور الحديقة الحديدي وأخذت أتطلع إلي ذلك الجمال الأسطوري الذي يجلس علي بعد عدة أمتار ...
كانت لها بشرة شفافة رائعة الجمال كادت تبرز معها أوردة وجهها من فرط الرقة .. وكانت وجنتها ذات لون أحمر خفيف يشي بحساسية شديدة يتمتع بها ذاك المخلوق الرائع ...
وعلي عنقها الطويل تدلي شلال أسود يميل مع نسمات الهواء كأنه موج تدفعه الريح في ليلة بحرية هائجة ليحطم سفن البحارة .. وقد تهدل هذا الشلال حتى منتصف ظهرها و أخذ يتطاير مع هبات الهواء الرقيقة لتدفعه هي بيديها وتبعده عن وجهها بحركات رقيقة تزيد علي جمالها الرزانة والهدوء ..
وقفت مشدوهاً أتأمل هذا الجمال البعيد خلف الأسوار والعوائق كأنه شمس يمكنك رؤيتها و لا يمكنك الوصول إليها ...
أخذت أتفحص وجه ذلك القمر الصباحي وأنا أتنهد في يأس ...
ولكن فجأة حدث شيء غريب ..
لقد انسابت دمعة من عين الفتاة وكأنها لص هارب لتهرول من وجنتيها إلي أنفها الأقني ثم شفتيها المضمومتين لتسقط علي الأرض في سرعة وتضيع وسط حشائش الأرض الخضراء ...
أنفطر قلبي لها .. ما الذي يبكيك أيها ال
.. من الذي يجرؤ ويصنع بك هذا .. هل انعدم الإحساس في الناس ليأذوا مشاعر تلك النجمة السماوية ..تلك الماسة الزرقاء ...
انحنت الفتاة في سرعة لتمسح دمعتها بأطراف أناملها واعتدلت في جلستها لتمسك الكتاب مرة أخري وتضع فيه عيناها ال
ة وترحل إلي سماء أخري وكيان آخر ..
وقع قلبي بين أقدامي وأردت أن أقفز من فوق هذا السور لأذهب إليها وأكفكف دمعها لكي آخذها بين أحضاني وأتركها تبكي علي كتفي .. لكي تحكي لي من جرح مشاعرها وطعن قلبها تلك الطعنة العميقة التي جعلت الدموع تفر من عينيها وتخسر البشرية تلك الدموع الفيروزية الغالية ..
لكن الأمور لم تجر علي ما يرام فقد فوجئت بمن يهز كتفي في عنف فالتفت له والدهشة تملأ نفسي فوجدت شيخ غليظ الملامح أنيق الملابس يمسك بمفاتيح سيارة فارهة تقف علي الرصيف بجانبه في يد وفي يده الأخرى جهاز محمول باهظ الثمن ويسألني قائلاً :
- هل يوجد شيء ما يجذب اهتمامك هنا ؟
كان في وسعي الرد عليه برد يخرسه لكني آثرت الاحترام فقلت له وأنا ألق نظرة أخيرة علي الفتاة :
- لا ..
فقال لي الشيخ وهو يخرج بعض العملة من جيبه ويضعها في يدي :
- إذن هلا رحلت من هنا لأنه مكان خاص وممنوع الوقوف بالقرب من هذه الأسوار ..
مضي الشيخ وتركني أتأمل ما في يدي من نقود ومن بعيد رأيت مجموعة من العاملين بالفيلا يهرولون نحو الشيخ وينحنون له في احترام وتبعوه حتى دخلوا خلفه الفيلا وأغلقوا الباب خلف سيارته وأختفي الجميع عن ناظري وساد الهدوء المكان ...
ومن بيـن إحدى الفتحات في السور تابعت الرجل وهو يتجه نحو الفتاة ويجذبها من يدها ويصعد بها نحو الفيلا في بطء ...
هذه الفتاة كالعصفور لا يمكن أن تعيش في الأسر ولا يمكن لها إلا أن تنطلق من شجرة إلي شجرة ومن غصن إلي غصن ...
ووسط المسيرة الهادئة هذه حانت من الفتاة إلتفاتة إلي الوراء و لغرابة الأمر وقعت عيناها علي المكان الذي أقف فيه ورأتني وأنا أراقبها فانفرجت شفتاها وكأنها تريد أن تقول شيء وتحفز جسدي كله لقراءة رسالة شفتيها لكن لسوء الحظ كانت قد اختفت داخل الفيلا .. وضاعت اليمامة داخل عش الحدأة ..