مساء آخر
< مساء آخر يأتي، والمدينة لا تنتبه إلا في اللحظة الأخيرة لموعد الإغلاق. بائع الأسماك، يخبئ في ثلاجة لها باب متين، ما تبقى لديه من صيد البحر الذي لم تصده يداه. يشطف بلاط الحانوت بالماء والصابون. والماء الذي يحمل معه أخلاطاً وروائح، يسيل في مجرى خاص.
والمدينة تخلو الآن من الناس. تجارها يغلقون أبواب حوانيتهم ويهرعون إلى بيوتهم، لا يتلفتون إلى الوراء، لئلا تصدمهم مفاجأة ما.
والمدينة، من باب العامود حتى باب الأسباط، ومن باب الساهرة حتى الباب الجديد، تنام ليلها المحفوف بالغموض، وفي أسواقها ليس ثمة إلا هواء وخطى جنود.
امرأة من القطمون
اسمها هالة.
رأيتها تمشي في السوق، تتفادى اندفاعات الرجال الذاهبين إلى مواعيدهم، والنساء العائدات إلى بيوتهن. سلمت عليها وسألتني: من أنت؟ أخبرتها من أنا، ومشينا معاً، وكان بلاط السوق لزجاً، وهي تخشى الانزلاق.
حدثتني عن حي القطمون، عن أيام شبابها هناك. حدثتني عن البيوت المنهوبة، ثم حدقت في وجهي وقالت: ولكن من أنت؟ أخبرتها من أنا، أبديت إعجابي بما كتبه أبوها طوال سنوات. كيف تغنى بجمال زوجته الأخاذ! كيف تفجع على أم الأولاد حينما اختطفها الموت! كيف اعتنى بالبنتين وبالولد! اطمأنت إلي، ومشينا. بلاط السوق مبلل من زخة مطر وقعت قبل ساعة. قالت إنها تشعر بالتعب. قلت: نشرب عصير البرتقال في الكافتيريا القريبة. شكرتني وقالت: لفتة كريمة.
في الكافتيريا الواقعة في طريق أفتيموس في القدس القديمة، جلسنا مثل صديقين قديمين. أنا أصغي اليها، وهي تروي نتفاً من حكايتها.
وفي الخارج، مطر خفيف يهطل على طريق أفتيموس، على كنيسة الفادي، وعلى جسد الحكاية. يبللها وهي تستيقظ، والدنيا خريف.
قدم ملساء
أدخل المقهى مع الأصيل.
سور المدينة أمامي، وكذلك السوق، ومدخل الجامع على يساري والطريق الصاعد إلى كتف المدينة على يميني.
عند مدخل الجامع جنود يرقبون حركة السوق. ثمة نداءات ممطوطة وسلع رخيصة، ونساء يساومن الباعة على السلع.
وفي المقهى سائحة تمد ساقها (كما لو أنها في البيت) من تحت الطاولة إلى حيث يجلس صديقها. تريح قدمها الملساء في حضنه، وهو يمرر يده على القدم كما لو أنها قطة، والنادل يضع فنجانين من القهوة فوق الطاولة ويغيب.
والجنود لا يغيبون. يدخل المصلون إلى الجامع ثم يخرجون. والسائحة لا تسترد قدمها من حضن صديقها إلا عند الغروب. وأنا أتأمل كل شيء حولي كما لو أنني هنا للمرة الأولى، والمقهى حائر في أمره لا يدري ماذا يقول.
كانت في بيروت
اسمها دمية.
تقرأ كتابها الجامعي في بيروت، وأنا أبكي في القدس. أبكي في سريري، وثمة ريح شديدة وأمي موزعة بيني وبين الشباك، ودمية لا تعرفني وأنا لا أعرفها. لكنها قالت حينما التقينا بعد خمسين سنة، إنها سمعت بكاء طفل آنذاك.
قالت إن قلبها انخلع، إن ثدييها تنمّلا، تكوّرا واستعدا لبذل الحليب.
قلت لها ونحن نمضي إلى مطعم قريب: ليتني عرفت ذلك. قالت: كيف تعــــرفه وأنت في سريرك لا تتقن إلا البكاء! ضحكنا معاً وكان الوقت مساء. دمية تحدثني عن أمها التي ماتت قبل أن تبلغ الخمسين، عن أخيها الذي مات في عز الشباب، عن الوالد الذي هده الحزن، وعن البيت الذي بناه الوالد من عرق الجبين، ثم استوطنته أسرة يهودية.
في صالة المطعم في شارع الزهراء، لم يكن على الموائد أحد. سحبتُ المقعد الجلدي الثقيل، وقلت لها: يا أمي اجلسي.
جلستْ وجلستُ، وفي الداخل كنا نسمع صوت عويل.
البيت
ذهبنا معاً إلى البيت.
قالت دمية: نذهب قبيل غروب الشمس. ركبنا حافلة الركاب التي تذهب إلى القطمون، ولم يأبه بنا ركاب الحافلة. نزلنا منها عند آخر الشارع، ومشينا قليلاً.
قالت: لطالما ركضت في هذا الحي. لطالما لعبت. لطالما رقصت. وهي مشت أمامي وأنا خلفها مشيت.
وصلنا البيت. قالت امرأة في شرفته: ما أتاه روتسيه؟ (ماذا تريد؟) ما آت روتساه؟ (ماذا تريدين؟) قالت دمية: أريد أن أرى البيت. تدخلتُ وقلت: فلسطينيون كثيرون جاؤوا في السنوات الماضية، لكي يروا بيوتهم. قلت: إدوارد سعيد جاء، وآخرون جاؤوا.
أطل رجل، ومن خلفه أطلت صبية. قلت: الفضيحة انتشرت، (لم أكن متأكداً من ذلك) ولن ينفعكم تجاهلها. قالت دمية: أريد أن أرى غرفة نومي. رد عليها الرجل: اذهبي إلى حكومة إسرائيل! قد تجدين غرفة نومك هناك. قالت المرأة: نعم هناك، فنحن لا شأن لنا بك.
الصبية تابعت المشهد في حيرة، ودمية استدارت وابتعدت، وأنا ابتعدت.
والبيت ظل مزروعاً وحده في بحيرة من صمت.